الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال الأصفهانيّ في (الذريعة): لما كان النطق أشرف ما خص به الْإِنْسَاْن، فإن صورته المعقولة التي بها باين سائر الحيوان، قال عز وجل: {خلق الْإِنْسَاْن علمه البيان} ولم يقل: وعلمه؛ إذ جعل قوله: {عَلِّمُهُ} تفسيرًا لقوله: {خُلِقَ الْإِنْسَاْن} تنبيهًا أن خلقه إياه هو تخصيصه بالبيان الذي لو توهم مرتفعًا لكانت الْإِنْسَاْنية مرقفعة، ولذلك قيل: ما الْإِنْسَاْن لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة. وقيل: المرء مخبوء تحت لسانه.قال الشاعر:
أي: إذا توهم ارتفاع النطق الذي هو باللسان، والقوة الناطقة التي هي بالفؤاد، لم يبق إلا صورة اللحم والدم. فإذا كان الْإِنْسَاْن هو اللسان فلا شك أن من كان أكثر منه حظًا كان أكثر منه إنسانية. والصمت من حيث ما هو صمت مذموم، فذلك من صفات الجمادات، فضلًا عن الحيوانات. وقد جعل الله تعالى بعض الحيوانات بلا صوت، وجعل لبعضها صوتًا بلا تركيب، ومن مدح الصمت فاعتبارًا بمن يسيء في الكلام، فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين والدنيا، فإذا ما اعتبرا بأنفسهما، فمحال أن يقال في الصمت فضل، فضلًا أن يخاير بينه وبين النطق. وسئل حكيم عن فضلهما فقال: الصمت أفضل حتى يحتاج إلى النطق. وسئل آخر عن فضلهما فقال: الصمت عن الخنا أفضل من الكلام بالخطأ. وعنه أخذ الشاعر: انتهى. وقد جوّز- كما حكاه الشهاب- أن يكون {الرَّحْمَنِ} خبر محذوف، أي: الله الرحمن، وما بعده مستأنف لتعديد نعمه. ثم قال: و{عَلَّمَ} من التعليم، ومفعوله مقدر، أي: علّم الْإِنْسَاْن، لا جبريل أو محمدًا عليهما الصلاة والسلام، وليس من العلامة من غير تقدير، كما قيل، أي: جعله علامة وآية لمن اعتبر، لبُعْدِهِ.{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [5- 7].{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي: يجريان بحساب معلوم مقدّر في بروجهما ومنازلهما، به تتسق أمور الكائنات السفلية، وتختلف الفصول والأوقات، ويعلم السنون والحساب.{وَالنَّجْمِ} أي: النبات الذي ينجم، أي: يطلع من الأرض ولا ساق له.{وَالشَّجَرَ} أي: الذي له ساق {يَسْجُدَانِ} أي: ينقادان لله فيما يريد بهما طبعًا، انقياد الساجد من المكلفين طوعًا. فهو استعارة مصرحة تبعيّة، شبّه جريهما على مقتضى طبيعته، بانقياد الساجد لخالقه والجملة- إن كانت خبرًا عن الرحمن لعطفها على الخبر- فالرابط محذوف لوضوحه، أي: بحسبانه ويسجدان له. أو مستأنفة، فالقطع لأنها مسوقة لغرض آخر. وإدخال العاطف بينهما لما أن الشمس والقمر سماويّان، والنجم والشجر أرضيّان، فبينهما مناسبة بالتقابل، وبانقياد الكل لإرادته.{وَالسَّمَاء رَفَعَهَا} أي: خلقها مرفوعة.{وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} أي: العدل بين خلقه في الأرض.قال القاشانيّ: أي: خفض ميزان العدل إلى أرض النفس والبدن، فإن العدالة هيئة نفسانية، لولاها لما حصلت الفضيلة الْإِنْسَاْنية. ومنه الاعتدال في البدن الذي لو لم يكن لما وجد ولم يبق. ولمّا استقام أمر الدين والدنيا بالعدل واستتبّ كمال النفس والبدن به، بحيث لولاه لفسد أمر بمراعاته ومحافظته قبل تعديد الأصول بتمامها، لشدّة العناية به، وفرط الاهتمام بأمره. وقوله تعالى: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [8- 9].{أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} أي: بالإفراط عن حدّ الفضيلة والاعتدال، فيلزم الجور الموجب للفساد. وأنْ مصدرية على تقدير الجارّ، أي: لئلا تطغوا فيه، أو مفسرة لما في وضع الميزان من معنى القول، لأنه بالوحي وإعلام الرسل.{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} أي: الاستقامة في الطريقة، وملازمة حدّ الفضيلة، ونقطة الاعتدال في جميع الأمور، وكل القوى.{وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} قال القاشانيّ: أي: بالتفريط عن حدّ الفضيلة.قال بعض الحكماء: العدل ميزان الله تعالى، وضعه للخلق، ونصبه للحق. انتهى.وممن فسّر {الْمِيزَانَ} في الآية بالعدل مجاهد وتبعه ابن جرير وكذا ابن كثير، ونظر لذلك بآية {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وجوّز أن يراد بالميزان ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما. ومنه قال السيوطيّ في (الإكليل): فيه وجوب العدل في الوزن، وتحريم البخس فيه، وعليه فوجه اتصال قوله: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} بما قبله، هو أنه لما وصف السماء بالرفعة التي هي مصدر القضايا والأقدار، أراد وصف الأرض بما فيها، مما يظهر به التفاوت، ويعرف به المقدار، ويسوّى به الحقوق والمواجب، كذا ارتآه القاضي، والله أعلم.وفي الحقيقة، الثاني من أفرد الأول، وأخذ اللفظ عامًّا أولى وأفيد.ومن اللطائف التي يتسع لها نظم الآية الكريمة قول الرازيّ:{الْمِيزَانَ} ذكر ثلاث مرات، كل مرة بمعنى، فالأول: هو الآلة، والثاني: للمفعول بمعنى المصدر، والثالث: للمفعول. قال: وهو كالقرآن، ذكر بمعنى المناسبة، قوله تعالى: {فَاتَّبِعْ قرأنَهُ} [القيامة: 18]، وبمعنى المقروء في قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقرآنَهُ} [القيامة: 17]، وبمعنى الكتاب الذي فيه المقروء في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قرآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد: 31]، فكأنه آلة ومحل له، وفي قوله تعالى: {آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالقرآن الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]. ثم قال: وبين القرآن والميزان مناسبة، فإن القرآن فيه من العلم ما لا يوجد في غيره من الكتب، والميزان فيه من العدل مالا يوجد في غيره من الآلات. انتهى.{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [10- 13].{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} أي: مهّدها للخلق {فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي: صنوف مما يتفكّه به {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} أي: أوعية الطلع، وهو الذي يطلع فيه العنقود، ثم ينشقّ عن العقود فيكون بُسرًا ثم رطبًا، ثم ينضج ويتناهى نفعه واستواؤه، وإنمامختلفة بالذكر، لما فيها من الفوائد العظيمة، على ما عرف من اتخاذ الظروف منها، والانتفاع بجمّارها وبالطلع والبسر والرطب وغير ذلك؛ فثمرتها في أوقات مختلفة كأنها ثمرات مختلفة، فهي أتم نعمة بالنسبة إلى غيرها من الأشجار، فلذا ذكر النخل باسمه، وذكر الفاكهة دون أشجارها، فإن فوائد أشجارها في عين ثمارها.{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} أي: وفيها الحبّ، وهو حَبّ البُرّ والشعير ونحوهما {ذُو الْعَصْفِ} أي: الورق اليابس كالتبن {وَالرَّيْحَانُ} أي: الورق الأخضر، تذكير بالنعمة به وبورقه في حاليته. هذا على قراءة: {الريحان} بالجرّ. وقرئ بالرفع، وهو الزرع الأخضر مطلقًا، سمي به تشبيهًا له بما فيه الروح؛ لأن حياته النباتية في نضرة خضرته.قال ابن عباس: الريحان خضر الزرع.وقال القرطبيّ: الريحان، إما فيعملان، من روح، فقلبت الواو ياء، وأدغم ثم خفف، أو فعلان، قلبت واوه ياء للتخفيف، أو للفرق بينه وبين الروحان، وهو ما له روح.{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال أبو السعود: الخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله تعالى: {لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 10]، وسينطلق به قوله تعالى: {أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} [الرحمن: 31]. والفاء لترتيب الإنكار، والتوبيخ على فصل من فنون النعماء، وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر حتمًا. والتعرّض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير، وتشديد التوبيخ. ومعنى تكذيبهم بآلائه تعالى كفرهم بها، إما بإنكار كونه نعمة في نفسه، كتعليم القرآن، وما يستند إليه من النعم الدينية، وإما بإنكار كونه من الله تعالى، مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه، كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره تعالى استقلالًا، أو اشتراكًا صريحًا، أو دلالة، فإن إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها. والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب، لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر، شهادة منها بذلك، فكفرهم تكذيب بها لا محالة، أي: فإذا كان الأمر كما فصل، فبأي فرد من أفراد آلاء مالِككما ومربيكما بتلك الآلاء تكذبان، مع أن كلًا منهما ناطق بالحق، شاهد بالصدق. انتهى.{خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [14- 16].{خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} قال أبو السعود: تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين. والصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة، والفخار الخزف. وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طينًا. ثم حمًا مسنونًا، ثم صلصالًا، فلا تنافي بين الآية الناطقة بأحدها، وبين ما نطق به بأحد الآخرين.{وَخَلَقَ الْجَانَّ} أي: الجن، أو أبا الجن، {مِن مَّارِجٍ} أي: لهب صاف.{مِّن نَّارٍ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النِّعَم، ومما أظهره لكما بالقرآن.{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [17- 18].{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} أي: مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما، أو مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما.{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: مما فيهما من النعم والفوائد التي لا تحصى، كاختلاف الفصول، وحدوث ما يناسب كل فصل فيه من الخيرات والبركات التي بها قوام العالم.{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [19- 21].{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي: أرسلهما، من مرج فلان دابته، إذا خلاّها وتركها. والمعنى: أرسل وأجرى البحر الملح، والبحر العذب {يَلْتَقِيَانِ} أي: يتجاوران.{بَيْنَهُمَا بَرْزَخً} أي: حاجز من قدرة الله تعالى وبديع صنعه {لَّا يَبْغِيَانِ} أي: لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة، وإبطال الخاصية.قال الشهاب: يعني أنهما إذا دخل أحدهما في الآخر قد يجرى فيه فراسخ ولا يتلاشى ويضمحل، حتى يغير أحدهما طعم الآخر ولونه، كما نشاهده.وقيل: المراد بحرَي فارس والروم، فإنهما يلتقيان في البحر المحيط، وبينهما برزخ من الأرض، لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما، وهو مروي عن قتادة والحسن، قال الشهاب: لكنه أورد عليه أنه لا يوافق قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان: 53] الآية، والقرآن يفسر بعضه بعضًا.واختار ابن جرير ما روي عن ابن عباس وغيره أنه عني به بحر السماء وبحر الأرض وذلك أن الله قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، واللؤلؤ والمرجان إنما يخرج من أصداف بحر الأرض عن قطر ماء السماء، فمعلوم أن ذلك بحر الأرض وبحر السماء. انتهى.وفيه ما في الذي قبله من عدم موافقته لتلك الآية، والأصل في الآي التشابه.زاد ابن كثير: إن ما بين السماء والأرض لا يسمى برزخًا، وحجرًا محجورًا؛ فالأولى هو الأول.{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: مما في البحرين وخلقهما من الفوائد، وقد أشار إلى بعضهما بقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [22- 23].{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أي: كبار الدر وصغاره. أو المرجان: الخرز الأحمر المعروف. وإنما قيل: {مِنْهُمَا} مع أنه يخرج من أحدهما، وهو الملح، لأنه لامتزاجهما يكون خارجًا منهما حقيقة، أو أنه نسب لهما ما هو لأحدهما، كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم. قال الناصر: وهذا هو الصواب، ومثله: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القرآن عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، وإنما أريد إحدى القريتين، وكما يقال: هو من أهل مصر، وإنما هو من محلة منها. انتهى.
|